إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد :- ¯ أهمية الإخلاص ومكانته إذا كانت الحكمة في خلق الله تعالى للإنس والجن عبادته ... ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (الذاريات56) ، فإن هذه العبادة لا تقبل عند الله تعالى إلا إذا اقترنت بإخلاص العامل ، يقول تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) (الزمر:2-3) ، وقال جل في علاه : ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (البينة:5) . فالإخلاص هو حياة الأعمال ، وهو روحها الذي يمدها بالاستمرار والبقاء ، فمثل الإخلاص في العمل كمثل القلب النابض في الجسد ، فهل يمكن أن يبقى ويستمر جسد في الحياة من دون نبض القلب وحركته ؟! فعمل بلا إخلاص كجسد بلا قلب ، قال – صلى الله عليه وسلام - " ألا وإن فـي الـجـسـد مـضـغـة إذا صـلحـت صـلح الـجـسـد ، وإذا فـسـدت فـسـد الـجـسـد ، ألا وهـي الـقـلـب " . والإخلاص مفتاح دخول الجنة ، فلا يدخل الجنة إلا مخلص ، قال - صلى الله عليه وسلم : " من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة " ... فمن قال لا إله إلا الله ، وفهم معناها ، وعمل بمقتضاها ، يبنغي بها وجه الله ، ويوقن بها ، غفر الله له ذنوبه جميعاً وأدخله الجنة . والإخلاص في الأعمال يزيدها حسناً ، ويرفع صاحبه بين العاملين ، وقد جاء عن الفضيل أنه سئل عن قوله تعالى : ( ليبلوكم ايكم أحسن عملاً ) (هود:7) فقال : "أحسنه : أخلصه وأصوله " . وهو أفضل الأعمال كما جاء عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال : " أفضل الأعمال ، أداء ما أفترض الله تعالى ، والورع عما حرم الله تعالى ، وصدق النية فيما عندالله تعالى " . ¯ معنى الإخلاص ودرجاته الإخلاص كما قال الفضيل – رحمه الله – أن يكون العمل لله ، فيصفيه من الشوائب والكطورات ، ويخلصه من محبته لحمد الناس وثنائهم ، وينسى فيه حظوظ النفس وأهواءها ، ويجعل عمله وسكونه وحركته كلها لله تعالى ، فلا يراقب فيه إلا الله ، ولا يلتفت إلى شيء إلا إلى الله ، وكماله بأن يكتم حسناته كما يكتم سيئاته . ¯ تحقيق الإحسان في الإخلاص الإخلاص هو الخلاص من رؤية المخلوقين لك ، ونظرهم إليك وإنما يكون النظر منك إلى خالقك وبارئك ، فإذا وقفت أمام أعين الناس في عمل صالح ؛ فإنما تتذكر وتستحضر أنك واقف بين عيني الله تعالى ، وتنظر إليه كما ينظر إليك ، فتنسيك جلالة هذا الموقف وعظمته رؤية أحدٍ ونظره إليك عن رؤية الله ونظره . فلا تزال تترقى في مراتب الإخلاص ودرجاته من مرتبة إلى مرتبة ودرجة إلى درجة حتى تبلغ مرتبة الإحسان فتعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك . ¯ شوائب الإخلاص فالإخلاص : أن لا يمازج االعمل ما يشوبه من شوائب إرادات النفس إما طلب التزين في قلوب الخلق ، وأما طلب مدحهم ، والهرب من ذمهم أو طلب تعظيمهم ، أو طلب اموالهم ، أو محبتهم ، وقضائهم حوائجه ، أو غير ذلك من الشوائب والعلل ، التي عقد متفرقاتها هو : إرادة ما سوى الله بعمله ، كائناً ما كان . ¯ المجاهدة في الإخلاص قال أيوب السختاني : " تخليص النيات على العمال ، أشد عليهم من جميع الأعمال "، فما أشد الإخلاص وما أعز درجاته ، ويظنه البطالون وأهل الراحة والكسل من أيسر الأعمال وأهونها ، وإنما ذلك لجهلهم بحقيقته ومعناه . فاعلم - أخي الحبيب - إنك لن تنال ثواب عملك إلا بقدر إخلاصك فيه ، فهل شمرت عن ساعد الجد وطلبت صدق الإخلاص في عملك لتنال الدرجة العالية فيه ؟!! . كتب سالم بن عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز : " اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر نيته ، فمن تمت نيته تم عون الله له ، وإن نقصت نقص بقدره " . ¯ كلمات في الإخلاص · قال بعضهم :" في إخلاص ساعة نجاة الأبد ، ولكن الإخلاص عزيز " .
· وقيل :" من وجد الله فماذا فقد !! ومن فقد الله فماذا وجد "!! .
· قال يحيى بن أبي كثير :" تعلموا النية ، فإنها أبلغ من العمل " .
· وكان معروف الكرخي – رحمه الله – يقول لنفسه :" يا نفس أخلصي تتخلصي " .
· وسئل احمد بن حنبل عن الإخلاص فقال :" بهذا ارتفع القوم " .
· وقال يحيى بن معاذ :" الإخلاص يميز العمل من العيوب كتمييز اللبن من الفرث والدم " .
· قال الجنيد :" إن لله عباداً عقلوا ، فلما عقلوا علموا ؛ فلما عملوا أخلصوا ؛ فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر البر اجمع " .· وقال ابن عباس - رضي الله عنه - :" إنما يحفظ الرجل على قدر نيته " .
¯ الإخلاص في الصَّلاة قال الجنيد :" الحكايات جند من جنود الله عز وجل ، يقول بها إيمان المريدين "، فقيل له :" هل لهذا من شاهد ؟" قال : قوله تعالى وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) ( هود:120) . وقصص السلف في الإخلاص دخلت في كل جانب وناحية ، ففي الصلاة كانوا – رحمهم الله – يجتهدون في إخفاء تطوعهم وتنفلهم . قال أبو تميم بن مالك :" كان منصور بن المعتمر إذا صلى الغداة أظهر النشاط لأصحابه ، فيحدثهم ويكثر إليهم ، ولعله إنما بات قائماً على أطرافه ، كل ذلك ليخفي عليهم العمل ". وهذا محمد بن أسلم الطوسي – رحمه الله – يقول عنه خادمه أبو عبدالله :" صحبت محمداً بن أسلم نيفاً وعشرين سنة لم أره يصلي حيث أروه من التطوع إلا يوم الجمعة ، ولا يسبح ولا يقرأ حيث أراه ، ولم يكن أحد أعلم بسره وعلانيته مني ، وسمعته يحلف كذا كذا مرة أن لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت ، ولكن لا أستطيع ذلك ". أما العالم العابد ، والإمام المجاهد ابن المبارك ؛ فاسمع ما يقول عنه صديقه في أسفاره ، يقول :" كان ذات ليلة ونحن في غزاة الروم ، ذهب ليضع راسه ليريني أنه ينام ، فقلت أنا برمحي في يدي فقبضت عليه ، ووضعت رأسي على الرمح كأني أنام كذلك ، فظن أني قد نمت فقام فأخذ في صلاته فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمقه ، فلما طلم الفجر ايقظني وظن أني نائم ، وقال : يا محمد ، فقلت : إني لم أنم . قال : فلما سمعها مني ما رأيته بعد ذلك يكلمني ولا ينبسط إلي في شيء من غزواته كلها ، كأنه لم يعجبه ذلك مني ، لما فطنت له من العمل ، فلم أزال أعرفها فيه حتى مات ، ولم أره رجلاً أسر بالخير منه ". وكان بن أبي ليلى إذا دخل داخل وهو يصلي اضطجع على فراشه . وهذا زين القراء محمد بن واسع من مكة إلى البصرة ، فكان يصلي الليل أجمع في المحمل جالساً يومىء برأسه إيماءً ، وكان يأمر الحادي يكون خلفه ، ويرفع صوته حتى لا يفطن له ، وكان ربما عرس من الليل فينزل فيصلي ، فإذا أصبح أيقظ أصحابه رجلاً رجلاً ، فيجيء إليه فيقول : الصلاة الصلاة ". هكذا كان حال كثير من السلف مع الصلاة ، يصلي الواحد منهم حتى لا يعرف صاحبه ولا جليسهً أنه كان يصلي ، اجتهاداً منهم - رحمهم الله - في الإخلاص وبلوغ مراتبه العالية . ¯ الإخلاص في الصدقة قال تعالى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (البقرة:271) . فالصدقة بالسر خير للمتصدق عليه فلا يكون فيها إيذاء لمشاعره ، وخير للمتصدق في نفسه فلا يكون فيها رياء وسمعة . وقد ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله :" ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ". فكان لآل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – النصيب الأوفر ، وهذا زين العابدين علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل ، فيتصدق به ، ويقول :" إن صدقة السر تطفىء غضب الرب " . وقال شيبة بن نعامة :" كان علي بن الحسين يبخل ، فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة " . وقال جرير :" إنه حين مات وجدوا بظهره آثاراً مما كان يحمل بالليل الجرب إلى المساكين " . وقال عمرو بن ثابت :" لما مات علي بن الحسين فغسلوه ، جعلوا ينظرون إلى آثار سواد بظهره ، فقالوا : ما هذا ؟ فقيل : كان يحمل جرب الدقيق ليلاً على ظهره ، يعطيه فقراء أهل المدينة " . وعن ابن عائشة قال : قال أبي :" سمعت أهل المدينة يقولون : ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين " . ¯ الإخلاص في الصوم وهو العمل الذي يتحقق فيه الإخلاص ، حتى قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث القدسي :" كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي " فكل الأعمال التي يعملها ابن آدم قد تظهر عليه ويراه الناس فيها ، إلا هذا العمل ؛ وهو الصوم . ومع ذلك فقد حرص السلف – رحمهم الله – على إخفاء صيامهم والإخلاص فيه ، فهذا داود بن أبي هند يصوم أربعين سنة ولا يعلم به اهله ولا أحد ، وكان خرازاً ، يحمل معه غداءه من عندهم ، فيتصدق به في الطريق ، ويرجع عشياً فيفطر معهم ، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت ، ويظن أهله أنه قد أكل في السوق . وأما أبو محفوظ معروف الكرخي :" سئل كيف تصوم ؟ فغالط السائل وقال له : صوم نبينا – صلى الله عليه وسلم – كان كذا وكذا ، وصوم داود كذا وكذا ، فألح عليه فقال له : أصبح دهري صائماً ، فمن دعاني أكلت ولم أقل إني صائم " . ¯ الإخلاص في الذكر و قراءة القرآن قال ابن الجوزي :" كان إبراهيم النخعي إذا قرأ في المصحف فدخل داخل غطاه ". وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل ، يقول عنه تلميذه أبو بكر المروزي : " كنت مع أبي عبدالله نحواً من أربعة أشهر بالعسكر ، وكان لا يدع قيام الليل وقراءات النهار ، فما علمت بختمة ختمها ، وكان يسر بذلك " . قال الإمام أحمد :" أشتهي ما لا يكون ... أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحد " . ¯ الإخلاص في طلب العلمقال الإمام الشافعي :" وددت أن الخلق تعلموا هذا ، على أن لا ينسب إلي حرف منه ". وكم من طالب علم أو عالم ، يطلب العلم ويتحدث به ليرى مكانه بين الناس وليعرف الناس أنه عالم !، فينال به شرفاً وجاهاً ، أو ينال به سمعة ورياءً .. فهذا ناصر الحديث والسنة ، إمام الأمة – رحمه الله ورضي عنه – يتمنى لو أن العلم الذي يحمله تعلمه الناس من دون أن يغزو إليه ذلك أحد ، ليكون ثوابه على الله خالصاً لنشر العلم ، خالياً من الشوائب التي قد تكون فيه غذا عرف عنه ، فرحمه الله وأجزل له المثوبة . وقال عون بن عمارة :" سمعت هشاماً الدستوائي يقول : والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث اريد به وجه الله عز وجل " !!. والإمام أبو الحسن الماوردي علي بن محمد بن حبيب شيخ الشافعية ، قيل : إنه لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته ، وجمعها في موضوع فلما دنت وفاته ، قال لمن يثق به :" الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي ، وإنما لم أظهرها ، لأني لم أجد نية خالصة ، فإذا عاينت الموت ووقعت في النزع ، فاجعل يدك في يدي ، فإن قبضت عليها وعصرتها ، فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها ، فاعمد إلى الكتب وألقها في دجلة ، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك ، فاعلم أنها قد قبلت ، وإني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية "!!! قال ذلك الشخص :" فلما قارب الموت وضعت يدي في يده ، فبسطها ولم يقبض على يدي ، فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده " . ¯ الإخلاص في الخوف من الشهرةقال إبراهيم بن أدهم :" ما صدق الله عبد أحب الشهرة " وذكر ابن الجوزي – رحمه الله – عن ابن أدهم أنه اشتهر ببلد فقيل : هو في البستان الفلاني ، فدخل الناس يطوفون ويقول : أين إبراهيم بن أدهم ؟ فجعل يطوف معهم ويقول : أين إبراهيم بن أدهم "؟!! وإبراهيم النخعي الإمام الفقيه : كان لا يجلس إلى السارية – العمود – في المسجد ، توقياً للشهرة . وكان يقول :" تكلمت ، ولو وجدت بداً ما تكلمت ، فإن زماناً أكون فيه فقيه الكوفة لزمان سوء "!!! .وكان يقول :خلت الديار فسدت غير مسودِ .................. ومن البلاء تفردي بالسؤددِ وأما محمد بن يوسف الأصبهاني لا يشتري زاده من خباز واحد ، ويقول :" لعلهم يعرفونني فيحابوني ، فأكون ممن أعيش بديني "وكان ابن محيريز يقول :" اللهم إني أسألك ذكراً خاملاً " ¯ فوائد الإخلاص وثمراتهللإخلاص ثمرات ومنافع لا يمكن حصرها ، وخاصة أنه يدخل في كل عمل ليكون شرطاً له ، فهو روح العمل ، وعمل بلا إخلاص ، كجسد بلا روح ، ولنحاول ذكر أهم هذه الثمرات من خلال آيات كتاب الله تعالى وأحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم - : 1- الإخلاص سبب النجاة من النار بالكلية ، فلا يدخل النار مسلم حقق معنى الإخلاص في جميع أعماله ، حيث يقول النبي – صلى الله عليه وسلم - :" لن يوافي عبد يوم القيامة يقول لا إله إلا الله ، ينبغي بها وجه الله ، إلا حرم الله عليه النار " ( أخرجه البخاري) .2- النجاة من الشدائد والمصائب ، ورفع البلاء وتفريج الكربات ، فعن عبدالله ابن عمر ابن الخطاب – رضى الله عنهما – قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول :" انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل ، فسدت عليهم الغار . فقالوا : إنه لاً ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم .فقال رجل منهم : اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً – أي لا أقدم في الشرب قبلهما أحداً – فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما . فحلبت لهما غبوقهما – أي شرابهما بالعشي – فوجدتهما نائمين . فكرهت أن أوقظهما ، وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً ، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما من الجوع – حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي – أي يصحون من الجوع – فاستيقظا ، فشربا غبوقهما .اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة ، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه .وقال الثاني : اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي ، فراودتها عن نفسها فامتنعت مني ، حتى المت بها سنة من السنين ، فجاءتني ، فأعطيتها عشرين ومائة دينار ، على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت ، حتى إذا قدرت عليها – وفي رواية : فلما قعدت بين رجليها قالت : اتق الله ، ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي ، وتركت الذهب الذي أعطينها .اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ، ففرج عنا ما نحن فيه ؛ فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها .وقال الثالث : اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ، ترك الذي له وذهب ، فثمرت له اجره ، حتى كثرت منه الأموال ، فجاءني بعد حين فقال : يا عبدالله أد إلي اجري ، فقلت : كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق ، فقال : يا عبدالله لا تستهزىء بي !، فقلت : لا أستهزىء بك ؛ فأخذه كله ، فاستاقه فلم يترك منه شيئاً .اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ، فافرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة ، فخرجوا يمشون " (متفق عليه) .ففي هذا الحديث يظهر أثر الإخلاص جلياً في انفراج الكرب حيث توسل كل منهم بعمل صالح مما يبغتى به وجه الله . وفي هذا الحديث أيضاً من فوائد الإخلاص أنه :3- سبب في استجابة الدعاء من الله – جل في علاه – وهو كما في كتاب الله تعالى لما ذكر عن أهل الفلك – أي السفينة – لما ركبوا فيها البحر وجاءتهم العواصف العاتية ، والأمواج العالية ، فلجئوا إلى الله بالدعاء مخلصين له لينجيهم مما هم فيه من الشدة والكرب ، فقال الله تعالى في سورة يونس هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (يونس:22-23) .4- بلوغ الدرجات العالية في الجنة ، فإن الله عز وجل ذكر في سورة الكهف ذلك فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (الكهف :108-110) .5- ومن ثمرات الإخلاص أن ينال شفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم القيامة ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال :" قلت يا رسول الله ، من اسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ " فقال : " لقد ظننت يا أباهريرة – أن لا يسألني عن الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث ، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة ؛ من قال ؛ لا إله إلا الله ، خالصاً من قبل نفسه " (رواه البخاري) .6- الإخلاص يحفظ القلب من الحقد والخيانة للمسلمين فيبقى سليم الباطن تجاه إخوانه ، فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال في حجة الوداع :" نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ثلاث لا يغل – أي فلا يحمل حقداً وخيانة في قلبه – عليهن قلب امرىء مؤمن : إخلاص العمل لله ، والمناصحة لأئمة المسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعاءهم يحيط من ورائهم " (رواه البزار) .7- الإخلاص سبب النصر للأمة على أعدائها ، كما روى النسائي – رحمه الله – بسند صحيح . قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها ، بدعائهم وإخلاصهم " .وعن أبي كعب قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :" بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة من نصيب " (رواه أحمد وابن ماجه) .8- دحر الشيطان والتغلب على وساوسه كما أخبر الله تعالى في كتابه عن إبليس فقال عنه قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ) (الحجر:39-40) .قال السعدي – رحمه الله – في تفسيره لهذه الآية :" أي الذين أخلصتهم واجتبيتهم لإخلاصهم ، وإيمانهم ، وتوكلهم " .9- النجاة من لآثام والسلامة من المعاصي ، ودفع أسبابها وأنواع السوء والفحشاء ، كما حصل ليوسف – عليه السلام – لما همت أمراة العزيز به فنجاه الله من كيدها ومكرها فقال سبحانه وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ( يوسف:24) ، فجزاء الإخلاص صرف السوء والفحشاء ، وهذا على قراءة من قرأ ألآية بكسر اللام في ( الْمُخْلَصِينَ ) ، ومن قرأها بالفتح ، فإنه من إخلاص الله إياه ، وهو متضمن لإخلاص هو أيضاً عليه السلام .10- الإخلاص في العمل سبب في دوام الثواب للعامل وإن تعذر عليه في بعض الأوقات ، كمن كان يصلي قيام الليل ثم سافر ، أو كمن كان يصوم النوافل ثم مرض ، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :" إذا مرض العبد أو سافر كتب له صلاة بليل فيغلبه عليها نوم إلاكتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقه " . وقال :" من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر لا ينقص ذلك من اجره شيئاً " (أخرجه أبو داود) .وفي غزوة تبوك لما جهز النبي – صلى الله عليه وسلم – جيش العسرة ، وأمر كل قادر على الجهاد بالخروج في هذه الغزوة إلا من عجز لمرض أو فقر ، قال – صلى الله عليه وسلم - :" لقد تركتم بالمدينة اقواماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " قالوا : يا رسول الله ؛ كيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ فقال :" حبسهم العذر " (رواه البخاري واللفظ لأبي داود) . نسأل الله تعالى الإخلاص في القول والعمل ، وأن يتقبل منا عملنا ويبارك لنا فيه ، ونعوذ به أن نشرك به شيئاً نعلمه ونستغفره لما لا نعلمه ؛ إنه سميع قريب مجيب . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
تم بحمد الله
هذا العمل منقول من مراجع
هذا العمل أن كان من توفيق فمن الله وحده وما كان من خطاء أو سهواً أو نسيان فمني ومن الشيطان وأعوذ بالله إن أذكركم به وأنساه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته